” كينونة”قصة قصيرة

 

بقلم .. آيار عبد الكريم 

يلا يابنات، قولوا ورايا تاء الفاعل: تُ تُ تُ تُ تُ

و تاء التأنيث اتْ اتْ اتْ اتْ اتْ.

يختلط صوت الأستاذ أبو زيد دائماً مع وقع أقدامه ذات الإيقاع السريع عند شرح القواعد النحوية لنا.

الأستاذ أبو زيد؛ أستاذ بسيط، رجل غير عادي، خارق للطبيعة في فصل مهترئ عادي، قصير القامة، ذو غمازتين على وجنتيه تنمّان عن طفولة وبراءة رُغم اقترابه من عمر الستين…

دائماً يرتدي ملابساً ” كليشيه” . بنطال من القماش على تيشرت صيفاً، أو ذلك البنطال ذاته على بلوفر شتاءً مع كوفية لا يتناسب لونها مع تلك الملابس.

عندما يدلف إلى الفصل؛ تبدأ البنات الصغيرات في الضحك والقهقهة و السخسخة على طريقة شرحه المعتادة.

ضربة قدميه على الأرض عند الشرح كانت تهتز لها جدران الفصل بأسره؛ و كأنها إعصار أو بركان سيطيح بكل ما يقابله، كما لن تستطيع آذاننا الصغيرة التشكيك في صوته الذي يشبه سرينة إسعاف مُدوّية..

تجلس خلفي بالصف الدراسي” أمل وجيه”؛ تلك الطالبة المشاغبة خفيفة الظل التي كانت تُقلّد لنا طريقة الأستاذ” أبو زيد ” في مونولوج هزليٍّ صغيرٍ كمونولوجيْ شكوكو، إسماعيل يس..

فما إن تبدأ حصة” الأستاذ” حتى تبدأ أمل افتتاحيّة الجولة النحوية و ترحب بالأستاذ بسخرية قائلةً:

” قُم للمُعلّم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولاً”

ثم نجلس لنستمع إلى هذا الأستاذ الخارق للطبيعة البشريّة.

و عندما تنتهي الحصة؛ تبدأ أمل في تقليد الأستاذ بحذافيره؛ نبرة صوته، إيماءاته الجسدية، نظرة عينيه الجاحظتين، ضربة القدم المُروّعة.

ضربة قدميها تجعلنا نضحك من داخل أعماقنا ، بل كان يصل بها الأمر إلى تقليده أثناء الشرح مع هز رأسها و كأنها تصنع لها هي الأخرى طريقة مُميّزة و منفردة بذاتها كالأستاذ أبو زيد .

و لأن اسمه كان” محمود أبو زيد ” ، فقد أطلقتْ عليه أمل” لقب ” أبو زيد الهلالي “

و الغريب في أمر أبو زيد أنه كان مُتيقّناً تمام اليقين من سخرية أمل بل كانت أيضاً مع هزّ رأسها، تقول عبارتها الشهيرة:” ولدي، آه ياعيني عليه، كبدي آه ياعيني عليه”

لفت نظرها أكثر من مرة بكلمة ” عيب يا بنت” حتى تتخلى عن تلك الجملة؛ التي كانت تطنّ في أذنيه كطنين نحل دؤوبٍ لا يكفّ عن الحراك، و كأن أمل ” جَتْ على الجرح”

 كان أبو زيد يشكو وضعه التعليمي وحاله لنا دائماً، و أنه كان من الأفضل لجهبزٍ مثله و قاموسٍ نحويٍّ مُتحرّك بوقع أقدامٍ تهتز لها الساحة التعليميّة بأسرها و إدارتيْ شرق وغرب المحلة الكبرى التعليميتيْن، أن يكون مُعلّماً لأطفال الروضة كما في المدارس الأجنبيّة؛ لأن قدراته التعليمية و مستواه في الشرح لا يتناسب مع عمرنا كمراهقاتٍ مشاغباتٍ في مرحلة الإعداديّة.

بديهي، أن الهلالي يرى الأشياء من زاويته الخاصة، بطريقةٍ مُغايرةٍ لطريقتنا. هذا يكمُن بوضوحٍ في شخصية” أبو زيد الهلالي ” وهذا أيضاً هو منطق الأشياء بالنسبة إليه ” تِعرف ايه عن المنطق يا مرسي “

إلى جانب حكاياته التي لا تنتهي عن جَولاته وبطولاته التعليمية منذ أن كان مُعلّماً في عمان ؛ بالإعارة التي جاءت من حسن حظّه و تغزّله في السلطان المُبارَك قابوس و في نظام المدارس هناك آنذاك.

ولكن كانت هذه الإعارة من سوء حظنا كفتيات، أن نصادف بعدها تلك الشخصية المُبالغ فيها.

كان الهلالي يتقبل منها المونولوج الموسيقي، و تقليد الايماءات؛ لكن هذه الجملة كانت تجعله ينتفض شزرا وحرقة، و كأن أمل تتحسر على حاله ووضعه التعليمي الحالي لكنها كانت تستمع إلى تعليقه من الأذن اليمنى، و تخرجها في ذات اللحظة من الأذن اليسرى” طنش، تعيش، تاكل قراقيش على حد قولها دائما”

عندما التحقتُ بالمرحلة الثانوية. كانت” التّورية” لُعبةً مسليةً مضحكةً بين معلميْ فصلي الدراسيّ و الدرس الخصوصيّ.

فهذان محمد محسن، و محمد بلحة، أستاذي اللغة العربية ،يتواريان و يتباريان في ملحمةٍ نحويةٍ لطيفةٍ؛ فهذا المحسن يقول دائما:” مثل بلحةٌ جدباءٌ لا خير فيها إلا النوى”

وهذا البلحة يقول:” مثل محسنٌ ليس من شيمة اسمه ذرة إحساناً”

كانتْ التورية هي شغلهما الشاغل و اقتصرتْ علاقتي بها على تلك التمثيلية المُكرّرة التي أستمع إليها دوما حتى مللتُها و مللتُ معها التشبيه، الاستعارة المكنية، و المحسنات البديعية أيضاً.

الآن في عمري السادس والثلاثين هذا؛ لم يتبقَ لي من هذه القواعد النحوية الفتّاكة إلا ” التّمييز”

عندما أشرحه لابني؛ أتذكر أغنية ” بيتهوفن النحو”

يلا ورايا يا بنات

١-٢ يُوافق.

٣- ١٠ يُخالف

١١- ٩٩ مفرد منصوب

١٠٠ و مضاعفاتها مفرد مجرور.

و أضرب بقدمي على الأرض مثل ” الهلالي” في سيمفونية موسيقية عذبة حتى يحفظها طفلي عن ظهر قلبٍ، و لا ينساها أبدا؛ لأن هذا التمييز هو ما نسعى إليه دوما بكل السبل الممكنة بهذه الحياة؛ أن نكون متميزين بعملٍ، برقمٍ، بكلمةٍ، بحرفٍ، هو “الكينونة” هو “الذات”.

0 Reviews

Write a Review

Read Previous

مع كتاب ” يوميات وكيل نيابة “للمستشار الكاتب: بهاء المري

Read Next

فضاء النقد … في شعرية القصيدة العربية د. علي نسر: الخروج عن المألوف النقدي

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Most Popular