شيخ الحارة (قصة قصيرة)

 

أحمد سيد عبد الغفار

الحاج فاضل عبد الحق هو شيخ حارتنا، رجل تخطّى الستين، وجهه أبيض ومستدير، لحيته كساها الشيب فأضفَت له وقارًا وهيبة، ضخم الجثة وعريض الصدر وجهوري الصوت، يتحرّك كثيرًا لدرجة تجعلك تظنّ بأنه موجود في كل الأماكن، يُنصت إليه الناس في المجالس لأنهم بالطبع يحترمونه وليس بسبب ثرثرته ومُقاطعته الجميع والتفوّه بالتفاهات مع الضحكات المُزعجة والسخيفة.

مظهره يُشبه فتوّات الحارات في فترة الملكيّة، جلباب فلّاحي وهراوة مُزيّنة بالدبابيس، يمشي مُختالًا بهيئته مُسدّدًا نظراته الحادّة على العابرين، هو شيخ الحارة ولا أحد يعلم مَن قام بتعيينه أو مَن أطلق عليه هذا اللقب! ولا أحد يعلم أيضًا هل زارَ بيت الله الحرام أم اكتفى بالاسم فقط!

الحاج فاضل يخرج من منزله بعد العصر ولا يعود إليه إلا بعد الفجر، يطوف على الحوانيت ويجلس مع أصحابها، ليس ثقيلًا أو فضوليًا، ولا يعني تجهّم وجوه الجالسين معه وعبوسها بأنه سمجًا! لا، هو فقط يعتبر نفسه صديقًا للجميع ويسأل عن أحوالهم مع كثير من النُصح الذي لا يُطلَب منه، يمكنك بسهولة معرفة الأماكن التي زارها شيخ الحارة من خلال الوجوه المُكفهرّة، كأن جباههم مكتوبٌ عليها “الشيخ فاضل مرّ من هنا”

هو الحكيم المتفرّد بحكمته وبصيرته في الحارة، لا يمكن أن يتحدّاه أحد أو يُجادله في آرائه، هو الصادق دائمًا .. العارف بكل الأشياء، مواقفه في إدارة الأمور لا يجهلها أحد، فمثلًا، ذات مرة منذ سنوات تدخّل تطوّعًا في مشكلة خاصّة ببناية مُتهالكة، كان مالِكها يُريد هدمها وإعادة بنائها، لكن الحاج فاضل وبخبرته وبصيرته النافذة اقترح عليه بأن يُرمّم شروخ الجُدران فقط، قام المالِك بتنفيذ رأي الشيخ الحكيم، وبعد فترة قصيرة سقط طابقين من البناية، قضاء وقدر طبعًا!

لا أنسى يوم مُداهمة الشُرطة للحارة والقبض على عم خليل الحلّاق، تجمع الناس أمام الدكّان وشاهدوا الرجل وهو في قبضة العساكر مذهولًا ومصدومًا، وعندما سألوا عن السبب جاءهم الردّ “قضية سياسية”، نظر الناس إلى الشيخ فاضل فصرخ فيهم “أقسم بالله لست أنا”، صدّقه أهل الحارة وتجاهلوا شجاره مع خليل منذ يومين والضمادة في أذنه اليُمنى، ومضوا في طريقهم.

في المقهى الكبير يقضي الشيخ فاضل لياليه، يجلس مُتربعًا على الدكّة بالقرب من التلفاز، يُقيم وحده استديو تحليلي للأخبار والقضايا السياسية وأيضًا تحليل المباريات، لا يُقاطعه أو يعترضه أحد حتى لا تشتعل مشاجرة، لا أعلم هل يستمعون إليه أم لا! لكني سمعت أحدهم ذات مرة يهمس بضيق “يلعن أبو كلاحتك يا أخي”، بالتأكيد يقصد المذيع المُنافق على الشاشة.

في السوق الأسبوعي تكون الحارة مُزدحمة، وفي هذا اليوم ينشط الشيخ فاضل وتدبّ فيه الحياة والحماسة كأنه شابٌ في العشرين، يصول ويجول وكأنه مالِك السوق، يمرّ على كل البائعين ويتفحّص بضاعتهم دون شراء، يسأل عن الأسعار ويتفحّص كأنه رئيس جهاز حماية المُستهلك، يتأفّف منه البائعين ويتهيّأ لي بأنهم يتحدثون معه باشمئزاز، وكثيرًا ما تقوم شجارات بالألسن دون اشتباك، تصادف بأنني حضرت إحدى تلك الشجارات وكانت مع بائع اسمه خميس، وخميس هذا كان مسجونًا وخرج من السجن منذ قريب، وبطريقة خبيثة اقتربت من خميس وسألته عن السبب، قال لي بغلٍّ شديد “هذا رجُل حقير، يأتي إلى السوق لكي يتلزّق بالنساء ويصُبّ سماجته علينا، ولولا خوفي من العودة إلى السجن لَمسَحت بوجهه الشارع”.

مواقف وحكايات الحاج فاضل لا تنتهي، مادة خصبة في مجالس السمر والسهر، يُشبّهه الناس بِجُحا ويسخرون منه، يضحكون عليه في قعدات الكيف أو الأفراح، لكن ما حدث في الأيام الأخيرة كان غباءً فظيعًا، لقد فعل ما لم يُرَ له مثيلًا حتى في أخبار المُغفّلين والحمقى عبر التاريخ.

تفاجأ أهل الحارة بالشيخ فاضل يمرّ عليهم لجمع تبرعات من أجل امرأة فقيرة مات زوجها تاركًا لها طفلين وحملًا ثقيلًا، امرأة نعرفها ونحترمها جميعًا، لم يتردّد أحد في المساعدة وتقديم ما يقدر عليه، لم يسأل أحد عم سيفعل الشيخ فاضل بالضبط، تركوه لضميره واحتفظوا بشكوكهم في دواخلهم، ومنذ أيام نادى الشيخ في أهل الحارة ليجمعهم، تجمّع أهل الحارة مع تساؤلاتهم وحيرتهم، وجدوا أنفسهم أمام كُشك صغير بُني حديثًا على مدخل الحارة، وقف الشيخ فاضل أمامهم واستدعى السيدة الفقيرة، تقدّمت المرأة وهي في حيرة من أمرها، أشار الشيخ إلى الكُشك وصاح بفخر واعتزاز”لقد بنينا لكِ هذا الكُشك”، نظرت المرأة إلى الكُشك وعلى وجهها خليط من التعبيرات من دهشة وحيرة وتعجّب، سألَت بكل براءة وعفوية: وماذا سأفعل به!؟

ردّ عليها الشيخ فاضل بكل ثقة وفخر: لتجلسي فيه وأنتِ تتسوّلين.

حينها كادت أذني أن تنخلع من وجهي من صوت الشخير، كأنّ أنوف وحناجر الواقفين اتفقت أن تصدر اعتراضها في لحظة واحدة، شعرت بأن الأرض انشقّت والسماء تلبّدت بغيوم الدهشة والغلّ والنفور والكراهية، لم ينطق أحد كلمة واحدة، شخروا جميعًا ثم انفَضّوا ورحلوا في صمت.

لسوء حظّي شهدت الكثير من الأحداث التي تبعث على الذهول والنفور والمقت، وكلّما حضرت مشهدًا عجيبًا لهذا الرجُل أتساءل: لماذا نترك هذا البغل الغبي يُعربد في الحارة ويرفص هنا وهناك؟ لماذا لا يعترضه أحد ويُسكِته ويريحنا من شروره وفساده وثرثرته الفارغة؟ لماذا نتقبّل السقوط والانحدار ولا نتصدّى له ونردعه؟ عجبًا لأمرنا! ما الذي يُخيفنا منه؟

أهل الحارة يتّقون شرّه ويتجنّبون رذالته وسمّ لسانه، التجنُّب تغلَّف بالخوف وتراكم في الصدور، تكوّنت في القلوب كراهية مبطّنة بالتجاهل، الاحترام الظاهر لشيخ الحارة يختفي خلفه لعن ونبذ وتحقير، اعتاد الناس على هذه الطريقة فلم يشعروا بأنهم تحوّلوا لِمُنافقين وأفّاقين .. وجُبناء.

تذكرت قول رجل حكيم بعد أن حكيت له مأساة حارتنا، قال مُلخّصًا الوضع في جُملة واحدة

“هكذا يكون حال الحارات التي يتولَّى أمرها الأراذل والأغبياء”

0 Reviews

Write a Review

Read Previous

الدكروري يكتب عن أعظم ما نحافظ عليه

Read Next

صانعة الفخار.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Most Popular